فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوأَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] وقوله: {رَبَّنَا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفّرْ عَنَّا سيئاتنا} [آل عمران: 193] وكانوا يعملون الصالحات ويتكلمون في السيئات مستغفرين مشفقين. والمنافق كان يتكلم في الصالحات كقوله: {إِنَّا مَعَكُمْ} [البقرة: 14] {قالتِ الأعراب ءَامَنَّا} [الحجرات: 14]. {وَمِنَ الناس مَن يَقول ءَامَنَّا} [البقرة: 8] ويعمل السيء فقال تعالى الله يسمع أقوالهم الفارغة ويعلم أعمالكم الصالحة فلا يضيع. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {فَكَيْفَ} أي فكيف تكون حالهم.
{إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الملائكة يَضْرِبُونَ} أي ضاربين؛ فهو في موضع الحال.
ومعنى الكلام التخويف والتهديد؛ أي إن تأخر عنهم العذاب فإلى انقضاء العمر.
وقد مضى في (الأنفال والنحل).
وقال ابن عباس: لا يتوفى أحد على معصية إلا بضرب شديد لوجهه وقفاه.
وقيل: ذلك عند القتال نُصْرَةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم. بضرب الملائكة وجوههم عند الطلب وأدبارهم عند الهرب.
وقيل: ذلك في القيامة عند سَوْقهم إلى النار.
قوله تعالى: {ذَلِكَ} أي ذلك جزاؤهم.
{بِأَنَّهُمُ اتبعوا مَا أَسْخَطَ الله} قال ابن عباس: هو كتمانهم ما في التوراة من نعت محمد صلى الله عليه وسلم.
وإن حُملت على المنافقين فهو إشارة إلى ما أضمروا عليه من الكفر.
{وَكَرِهواْ رِضْوَانَهُ} يعني الإيمان.
{فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} أي ما عملوه من صدقة وصلة رحم وغير ذلك؛ على ما تقدّم.
قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} نفاق وشك. يعني المنافقين.
{أَن لَّن يُخْرِجَ الله أَضْغَانَهُمْ} الأضغان ما يُضمر من المكروه.
واختلف في معناه؛ فقال السدّي: غِشّهم.
وقال ابن عباس: حسدهم.
وقال قُطْرُب: عدوانهم؛ وأنشد قول الشاعر:
قل لاْبن هند ما أردت بمنطق ** ساء الصديق وشيّد الأضغانا

وقيل: أحقادهم.
واحدها ضِغن.
قال:
وذي ضغن كففت النفس عنه

وقد تقدم.
وقال عمرو بن كلثوم:
وإن الضغن بعد الضغن يفشو ** عليك ويُخرج الداء الدفينا

قال الجوهريّ: الضغن والضغينة: الحقد.
وقد ضغِن عليه (بالكسر) ضِغنًا.
وتضاغن القومُ واضطغنوا: أبطنوا على الأحقاد.
واضطغنت الصبيَّ إذا أخذته تحت حضنك.
وأنشد الأحمر:
كأنّه مُضْطَغِنٌ صبِيّا

أي حامله في حجره.
وقال ابن مُقْبل:
إذا اضطغنتُ سلاحي عند مَغْرِضها ** ومِرفقٍ كرِئاس السيف إذ شَسَفَا

وفرس ضاغن: لا يعطي ما عنده من الجري إلا بالضرب.
والمعنى: أم حسبوا أن لن يظهر الله عداوتهم وحقدهم لأهل الإسلام.
{ولو نشاء لأَرَيْنَاكَهُمْ} أي لعرّفناكهم.
قال ابن عباس: وقد عرّفه إياهم في سورة (براءة).
تقول العرب: سأريك ما أصنع؛ أي سأعلمك؛ ومنه قوله تعالى: {بِمَا أَرَاكَ الله} [النساء: 105] أي بما أعلمك.
{فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ} أي بعلاماتهم.
قال أنس: ما خفي على النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية أحد من المنافقين؛ كان يعرفهم بسيماهم.
وقد كنا في غزاة وفيها سبعة من المنافقين يشك فيهم الناس. فأصبحوا ذات ليلة وعلى جبهة كل واحد منهم مكتوب (هذا منافق) فذلك سيماهم.
وقال ابن زيد: قدر الله إظهارهم وأمر أن يخرجوا من المسجد فأبوا إلا أن يتمسكوا بلا إله إلا الله. فحقنت دماؤهم ونكحوا وأنكحوا بها.
{ولتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول} أي في فحواه ومعناه.
ومنه قول الشاعر:
وخير الكلام ما كان لَحْنَا

أي ما عُرف بالمعنى ولم يُصَرَّح به.
مأخوذ من اللحن في الإعراب. وهو الذهاب عن الصواب. ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنكم تختصمون إليّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض» أي أذهب بها في الجواب لقوّته على تصريف الكلام.
أبوزيد: لَحَنْت له (بالفتح) أَلْحَنُ لَحْنًا إذا قُلْتَ له قولا يفهمه عنك ويَخْفَى على غيره.
ولحِنَه هو عَنّي (بالكسر) يلحنه لَحْنًا أي فهمه.
وألحنته أنا إياه. ولاحنت الناس فاطنتهم؛ قال الفَزارِيّ:
وحدِيثٍ ألَذُّه هو مما ** يَنْعَت النَّاعِتُون يُوزَن وزْنَا

منطِقٌ رائعٌ وتَلْحَنُ أحيا ** نًا وخير الحديث ما كان لحنَا

يريد أنها تتكلم (بشيء) وهي تريد غيره. وتُعَرِّض في حديثها فتزيله عن جهته من فطنتها وذكائها.
وقد قال تعالى: {ولتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول}.
وقال القَتّال الكِلاَبِيّ:
ولقد وَحَيْت لكم لكيما تفهموا ** ولحَنْتُ لحنًا ليس بالمرتاب

وقال مرار الأسدي:
ولحنتِ لحنًا فيه غشٌّ ورابني ** صدودُك تُرْضين الوشاةَ الأعادِيَا

قال الكلبي: فلم يتكلم بعد نزولها عند النبيّ صلى الله عليه وسلم منافق إلا عرفه.
وقيل: كان المنافقون يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم بكلام تواضعوه فيما بينهم؛ والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع ذلك ويأخذ بالظاهر المعتاد. فنبهه الله تعالى عليه. فكان بعد هذا يعرف المنافقين إذا سمع كلامهم.
قال أنس: فلم يَخْفَ منافق بعد هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ عَرّفه الله ذلك بوحي أو علامة عرَفها بتعريف الله إياه {والله يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} أي لا يخفى عليه شيء منها. اهـ.

.قال الألوسي:

والفاء في قوله سبحانه: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الملائكة} لترتيب ما بعدها على ما قبلها. {وَكَيْفَ} منصوب بفعل محذوف هو العامل في الظرف كأنه قيل: يفعلون في حياتهم ما يفعلون من الحيل فكيف يفعلون إذا توفتهم الملائكة. وقيل: مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي فكيف حالهم أوحيلتهم إذا توفتهم الخ. وزعم الطبري أن التقدير فكيف علمه تعالى بأسرارهم إذا توفتهم الخ. وليس بشيء. ووقت التوفي هو وقت الموت. والملائكة عليهم السلام ملك الموت وأعوانه.
وقرأ الأعمش {توفاهم} بالألف بدل التاء فاحتمل أن يكون ماضيًا وأن يكون مضارعًا حذف منه أحد تاءيه والأصل تتوفاهم {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وأدبارهم} حال من الملائكة. وجوز كونه حالًا من ضمير {تَوَفَّتْهُمُ} وضعفه أبو حيان. وهو على ما قيل تصوير لتوفيهم على أهو ل الوجوه وأفظعها وإبراز لما يخافون منه ويجبنون عن القتال لأجله فإن ضرب الوجوه والإدبار في القتال والجهاد مما يتقى. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه لا يتوفى أحد على معصية ألا تضرب الملائكة في وجهه وفي دبره. والكلام على الحقيقة عنده ولا مانع من ذلك وإن لم يحس بالضرب من حضر وما ذلك إلا كسؤال الملكين وسائر أحوال البرزخ والمراد بالوجه والدبر قيل العضوان المعروفان.
أخرج ابن المنذر عن مجاهد أنه قال: يضربون وجوههم واستاههم ولكن الله سبحانه كريم يكنى. وقال الراغب وغيره: المراد القدام والخلف. وقيل: وقت التوفي وقت سوقهم في القيامة إلى النار والملائكة ملائكة العذاب يومئذٍ. وقيل: هو وقت القتال والملائكة ملائكة النصر تضرب وجوههم إن ثبتوا وأدبارهم إن هربوا نصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وكلا القولين كما ترى.
{ذلك} التوفي الهائل {بِأَنَّهُمْ} أي بسبب أنهم {اتبعوا مَا أَسْخَطَ الله} من الكفر والمعاصي {وَكَرِهواْ رِضْوَانَهُ} ما يرضاه عز وجل من الإيمان والطاعات حيث كفروا بعد الإيمان وخرجوا عن الطاعة بما صنعوا من المعاملة مع إخوانهم اليهود. وقيل: ما أسخط الله كتمان نعت الرسول صلى الله عليه وسلم ورضوانه ما يرضيه سبحانه من إظهار ذلك. وهو مبني على أن ما تقدم أخبار عن اليهود وقد سمعت ما فيه. ولما كان اتباع ما أسخط الله تعالى مقتضيًا للتوجه ناسب ضرب الوجه وكراهة رضوانه سبحانه مقتضيًا للإعراض ناسب ضرب الدبر ففي الكلام مقابلة بما يشبه اللف والنشر {فَأَحْبَطَ} لذلك {أعمالهم} التي عملوها حال إيمانهم من الطاعات. وجوز أن يراد ما كان بعد من أعمال البر التي لوعملوها حال الإيمان لانتفعوا بها.
{أَمْ حَسِبَ الذين في قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} هم المنافقون الذين فصلت أحوالهم الشنيعة وصفوا بوصفهم السابق لكونه مدارًا لما نعى عليهم بقوله تعالى: {أَن لَّن يُخْرِجَ الله أضغانهم} فأم منقطعة وأن مخففة من أن واسمها ضمير الشأن والجملة بعدها خبرها. والأضعان جمع ضغن وهو الحقد وقيده الراغب بالشديد وقد ضغن بالكسر وتضاغن القوم واضطغنوا أبطنوا الأحقاد. ويقال: اضطغنت الصبي إذا أخذته تحت حضنك وأنشد الأحمر:
كأنه مضطغن صبيًا

وفرس ضاغن لا يعطي ما عنده من الجري إلا بالضرب. وأصل الكلمة من الضغن وهو الالتواء والاعوجاج في قوائم الدابة والقناة وكل شيء. قال بشر:
كذات الضغن تمشي في الرقاق

وأنشد الليث:
إن قناتي من صليبات القنا ** ما زادها التثقيف إلا ضغنا

والحقد في القلب يشبه به: وقال الليث. وقطرب.
الضغن العداوة قال الشاعر:
قل لابن هند ما أردت بمنطق ** ساء الصديق وشيد الإضغانا

وهذا لا ينافي الأول لأن الحقد العداوة لأمر يخفيه المرء في قلبه. والآخراج مختص بالأجسام. والمراد به هنا الإبراز أي بل أحسب الذين في قلوبهم حقد وعداوة للمؤمنين أنه لن يبرز الله تعالى أحقادهم ويظهرها للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فتبقى مستورة. والمعنى أن ذلك مما لا يكاد يدخل تحت الاحتمال.
{ولو نشاء} إراءتك إياهم {لأريناكهم} أي لعرفناكهم على أن الرؤية علمية {فَلَعَرَفْتَهُم بسيماهم} تفريع لمعرفته صلى الله عليه وسلم على تعريف الله عز وجل. ويجوز أن تكون الرؤية بصرية على أن المعنى أنه صلى الله عليه وسلم يعرفهم معرفة متفرعة على إراءته إياهم. والالتفات إلى نون العظمة للإيماء إلى العناية بالإراءة. والسيما العلامة. والمعنى هنا على الجمع لعمومها بالإضافة لكنها أفردت للإشارة إلى أن علاماتهم متحدة الجنس فكأنها شيء واحد أي فلعرفتهم بعلامات نسمهم بها؛ ولام {فَلَعَرَفْتَهُم} كلام لأريناكهم الواقعة في جواب لولان المعطوف على الجواب جواب. وكررت في المعطوف للتأكيد. وأما التي في قوله تعالى: {ولتَعْرِفَنَّهُمْ في لَحْنِ القول} فواقعة في في جواب قسم محذوف والجملة معطوفة على الجملة الشرطية {مِنَ القول} أسلوب من أساليبه مطلقًا. أو المائلة عن الطريق المعروفة كان يعدل عن ظاهره من التصريح إلى التعريض والإبهام. ولذا سمي خطأ الإعراب به لعدو له عن الصواب. وقال الراغب: اللحن صرف الكلام عن سننه الجاري عليه إما بإزالة الإعراب أو التصحيف وهو المذموم وذلك أكثر استعمالًا. وإما بإزالته عن التصريح وصرفه بمعناه إلى تعريض وفحوى وهو محمود من حيث البلاغة. وإليه أشار بقوله الشاعر عند أكثر الأدباء:
منطق صائب وتلحن أحيا ** نًا وخير الحديث ما كان لحنًا

وإياه قصد بقوله تعالى: {ولتَعْرِفَنَّهُمْ في لَحْنِ القول} وفي (البحر) يقال: لحنت له بفتح الحاء ألحن لحنًا قلت له قولا يفهمه عنك ويخفى على غيره. ولحنه هو بالكسر فهمه وألحنته أنا إياه ولا حنت الناس فاطنتهم. وقيل: لحن القول الذهاب عن الصواب. وعن ابن عباس {لَحْنِ القول} هنا قولهم ما لنا إن أطعنا من الثواب ولا يقولون ما علينا إن عصينا من العقاب وكان هذا الذي ينبغي منهم. وقال بعض من فسره بالأسلوب المائل عن الطريق المعروفة: إنهم كانوا يصطلحون فيما بينهم على ألفاظ يخاطبون بها الرسول صلى الله عليه وسلم مما ظاهره حسن ويعنون به القبيح وكانوا أيضًا يتكلمون بما يشعر بالاتباع وهم بخلاف ذلك كقولهم إذا دعاهم المؤمنون إلى نصرهم: إنا معكم. وبالجملة أنهم كانوا يتكلمون بكلام ذي دسائس وكان صلى الله عليه وسلم يعرفهم بذلك. وعن أنس رضي الله تعالى عنه ما خفي بعد هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء من المنافقين كان عليه الصلاة والسلام يعرفهم بسيماهم ولقد كنا في بعض الغزوات وفيها تسعة من المنافقين يشكوهم الناس فناموا ذات ليلة وأصبحوا وعلى جهة كل واحد منهم مكتوب هذا منافق.
وفي دعواه أنه صلى الله عليه وسلم كان يعرفهم بسيماهم أشكال فإن {لَوْ} ظاهرها عدم الوقوع بل المناسب معرفتهم من لحن القول. وكأنه حمله على أنه وعد بالوقوع دال على الامتناع فيما سلف. ولقد صدق وعده واستشهد عليه بما اتفق في بعض الغزوات. ولا تنحصر السيما بالكتابة بل تكون بغيرها أيضًا مما يعرفهم به النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرف القائف حال الشخص بعلامات تدل عليه. وكثيرًا ما يعرف الإنسان محبه ومبغضه من النظر ويكاد النظر ينطق بما في القلب. وقد شاهدنا غير واحد يعرف السني والشيعي بسمات في الوجه. وإن صح أن بعض الأولياء قدست أسرارهم كان يعرف البر والفاجر والمؤمن والكافر ويقول أشم من فلان رائحة الطاعة ومن فلان رائحة المعصية ومن فلان رائحة الإيمان ومن فلان رائحة الكفر ويظهر الأمر حسبما أشار فرسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك المعرفة أولى وأولى؛ ولعلها بعلامات وراء طور عقولنا. والنور المذكور في خبر «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» تعالى متفاوت الظهور بحسب القابليات وللنبي صلى الله عليه وسلم أتمه. وذكروا من علامات النفاق بغض علي كرم الله تعالى وجهه.